الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
هذه الوكالة تجاه باب الجوّانية من القاهرة فيما بين درب الرشيدي ووكالة قوصون كان موضعها عدّة مساكن فابتدأ الأمير جمال الدين محمود بن عليّ الأستادار بهدمها في يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة وبناها فندقًا وربعًا بأعلاه فلماكملت رسم الملك الظاهر برقوق أن تكون دار وكالة يرد غليها ما يصللى القاهرة وما يرد من صنف متجر الشام في البحر كالزيت والرب والدبس ويصير ما يرد في البرّ يدخل به على عادته إلى وكالة قوصون وجعلها وقفًا على المدرسة الخانقاه التي أنشأها بخط بين القصرين فاستمرّ الأمر على ذلك إلى اليوم. خان الخليلي هذا الخان بخط الزراكشة العتيق كان موضعه تربة القصر التي فيها قبور الخلفاء الفاطميين المعروفة بتربة الزعفران وقد تقدّم ذكرها عند ذكر القصر في هذا الكتاب. أنشأه الأمير جهاركس الخليليّ أميراخور الملك الظاهر برقوق وأخرج منها عظام الأموات في المزابل على الحمير وألقاها بكميان البرقية هوانًا بها فإنه كان يلوذ به شمس الدين محمد بن أحمد القليجي الذي تقدّم ذكره في ذكر الدور من هذا الكتاب وقال له: إن هذه عظام الفاطميين وكانوا كفارًا رفضة فاتفق للخليليّ في موته أمر فيه عبرة لأولي الألباب وهو أنه لما ورد الخبر بخروج الأمير بلبغا الناصريّ نائب حلب ومجيء الأمير منطاش نائب ملطية إليه ومسيرهما بالعساكر إلى دمشق أخرج الملك الظاهر برقوق خمسمائة من المماليك وتقدّم لعدّة من الأمراء بالمسير بهم فخرج الأمير أحمد بن بلبغا الخاصكيّ والأمير ندكار الحاجب وساروا إلى دمشق فلقيهم الناصري ظاهر دمشق فانكسر عسكر السلطان لمخامرة ابن بلبغا وندكار وفرّ أيتمش إلى قلعة دمشق وقتل الخليليّ في يوم الاثنين حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وترك على الأرض عاريًا وسوءته مكشوفة وقد انتفخ وكان طويلًا عريضًا إلى أن تمزق وبلي عقوبة من الله تعالى بما هتك من رمم الأئمة وابنائهم ولقد كان عفا الله عنه عارفًا خبيرًا بأمر دنياه كثير الصدقة ووقف هذا الخان وغيره على عمل خبز يفرق بمكة على كل فقير منه في اليوم رغيفان فعمل ذلك مدّة سنين ثم لما عظمت الأسعار بمصر وتغيرت نقودها من سنة ست وثمانمائة صار يحمل إلى مكة مال ويفرّق بها على الفقراء. فندق طرنطاي هذا الفندق كان بخارج باب البحر ظاهر المقس وكان ينزل فيه تجار الزيت الواردون من الشام وكان فيه ستة عشر عمودًا من رخام طول كل عمود ستة أذرع بذراع العمل في دور ذراعين ويعلوه ربع كبير فلما كان في واقعة هدم الكنائس وحريق القاهرة ومصر في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة قدم تاجر بعد العصر بزيت وزن في مكسه عشرين ألف درهم نقرة سوى أصناف أخبر قيمتها مبلغ تسعين ألف درهم نقرة فلم يتهيأ له الفراغ من نقل الزيت إلى داخل هذا الفندق إلاّ بعد العشاء الآخرة فلما كان نصف الليل وقع الحريق بهذا الفندق في ليلة من شهر ربيع الآخر منها كما كان يقع في غير موضع من فعل النصارى فأصبح وقد احترق جميعه حتى الحجارة التي كان مبنيًا بها وحتى الأعمدة المذكورة وصارت كلها جيرًا واحترق علوه وأصبح التاجر يستعطي الناس وموضع هذا الفندق. الأسواق قال ابن سيدة: والسوق التي يتعامل فيها تذكر وتؤنث والجمع أسواق وفي التنزيل: " وقد كان بمدينة مصر والقاهرة وظواهرها من الأسواق شيء كثير جدًّا قد باد أكثرها وكفاك دليلًا على كثرة عددها أن الذي خرب من الأسواق فيما بين أراضي اللوق إلى باب البحر بالمقص اثنان وخمسون سوقًا أدركناها عامرة فيها ما يبلغ حوانيته نحو الستين حانوتًا وهذه الخطة من جملة ظاهر القاهرة الغربيّ فكيف ببقية الجهات الثلاث مع القاهرة ومصر وسأذكر من أخبار الأسواق ما أجد سبيلًا إلى ذكره إن شاء الله تعالى. القصبة قال ابن سيدة: قصبة البلد مدينته وقيل معظمه. والقصبة هي أعظم أسواق مصر وسمعت غير واحد ممن أدركته من المعمرين يقول: أنّ القصبة تحتوي على اثني عشر ألف حانوت كأنهم يعنون ما بين أوّل الحسينية مما يلي الرمل إلى المشهد النفيسيّ ومن اعتبر هذه المسافة اعتبارًا جيدًا لا يكاد أن ينكر هذا الخبر. وقد أدركت هذه المسافة بأسرها عامرة الحوانيت غاصة بأنواع المآكل والمشارب والأمتعة تُبهج رؤيتها ويُعجب الناظر هيئتها ويُعجز العادّ عن إحصاء ما فيها من الأنواع فضلًا عن إحصاء ما فيها من الأشخاص وسمعت الكافة ممن أدركت يفاخرون بمصر سائر البلاد ويقولون: يُرمى بمصر في كل يوم ألف دينار ذهبًا على الكيمان والمزابل يعنون بذلك ما يستعمله اللبانون والجبانون والطباخون من الشقاف الحمر التي يوضع فيها اللبن والتي يوضع فيها الجبن والتي تأكل فيها الفقراء الطغام بحوانيت الطباخين وما يستعمله بياعوا الجبن من الخيط والحصر التي تعمل تحت الجبن في الشقاف وما يستعمله العطارون من القراطيس والورق الفويّ والخيوط التي تشدّ بها القراطيس الموضوع فيها حوائج الطعام من الحبوب والآفاوية وغيرها فإن هذه الأصناف المذكورة إذا حملت من الأسواق وأخذا ما فيها ألقيت إلى المزابل ومن أدرك الناس قبل هذه المحن وأمعن النظر فيما كانوا عليه من أنواع الحضارة والترف لم يستكثر ما ذكرناه. وقد اختلّ حال القصبة وخرب وتعطل أكر ما تشتمل عليه من الحوانيت بعدما كانت مع سعتها تضيق بالباعة فيجلسون على الأرض في طول القصبة بأطباق الخبز وأصناف المعايش. ويقال لهم أصحاب المقاعد وكل قليل يتعرّض الحكام لمنعهم وإقامتهم من الأسواق لما يحصل بهم من تضييق الشوارع وقلة بيع أرباب الحوانيت وقد ذهب والله ما هناك ولم يبق إلا القليل وفي القصبة عدّة أسواق منها ما خرب ومنها ما هو باق وسأذكر منها ما يتيسر إن شاء الله تعالى. سوق باب الفتوح هذا السواق في داخلن باب الفتوح من حدّ باب الفتوح الآن إلى رأس حارة بهاء الدين. معمور الجانبين بحوانيت اللحامين والخضريين والفاميين والشرايحية وغيرهم وهو من أجلّ أسواق القاهرة وأعمرها يقصده الناس من أقطار البلاد لشراء أنواع اللحمان الضأن والبقر والمعز ولشراء أصناف الخضروات وليس هو من الأسواق القديمة وإنما حدث بعد زوال الدولة الفاطمية عندما سكن قراقوش في موضعه المعروف بحارة بهاء الدين وقد تناقض عما كان فيه منذ عهد الحوادث وفيه إلى الآن بقية صالحة. سوق المرحلين هذا السوق أدركته من راس حارة بهاء الدين إلى بحري المدرسة الصيرمية معمور الجانبين بالحوانيت المملوءة برحالات الجمال وأقتابها وسائر ما تحتاج إليه يقصد من سائر إقليم مصر خصوصًا في مواسم الحج. فلو أراد الإنسان تجهيز مائة جمل وأكثر في يوم لما شق عليه وجود ما يطلبه من ذلك لكثرة ذلك عند التجار في الحوانيت بهذا السوق وفي المخازن. فلما كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة وكثر سفر الملك الناصر فرج بن برقوق إلى محاربة الأمير شيخ والأمير نوروز بالبلاد الشامية صار الوزراء يستدعون ما يحتاج إليه الجمال من الرحال والاقتاب وغيرها فإما لا يدفع ثمنها أو يدفع فيها الشيء اليسير من الثمن فاختلّ من ذلك حال المرحلين وقلت أموالهم بعدما كانوا مشتهرين بالغناء الوافر والسعادة الطائلة وخرب معظم حوانيت هذا السوق وتعطل أكثر ما بقي منها ولم يتأخر فيه سوى القليل. سوق خان الروّاسين: هذا السوق على رأس سويقة أمير الجيوش قيل له ذلك من أجل أن هناك خانًا تعمل فيه الرؤوس المغمومة وكان من أحسن أسواق القاهرة فيه عدّة من البياعين ويشتمل على نحو العشرين حانوتًا مملوءة بأصناف المآكل وقد اختل وتلاشى أمره. سوق حارة برجوان إذا السوق من الأسواق القديمة وكان يُعرف في القديم أيام الخفاء الفاطميين بسوق أمير الجيوش وذلك أنّ أمير الجيوش بدر الجمالي لما قدم إلى مصر في زمن الخليفة المستنصر وقد كانت الشدّة العظمة بنى بحارة برجوان الدار التي عرفت بدار المظفر وأقام هذا السوق براس حارة برجوان. قال ابن عبد الظاهر: والسويقة المعروفة بأمير الجيوش معروفة بأمير الجيوش بدر الجمالي وزير الخليفة المستنصر وهي من باب حارة برجوان إلى قريب الجامع الحاكمي وهكذا تشهد مكاتيب دور حارة برجوان القديمة فإنّ فيها والحدّ القبليّ ينتهي إلى سويقة أمير الجيوش وسوق حارة برجوان هو في الحدّ القبليّ من حارة برجوان وأدركت سوق حارة برجوان أعظم أسواق القاهرة ما برحنا ونحن شباب نفاخر بحارة برجوان سكان جميع حارات القاهرة فنقول: بحارة برجوان حمّامات يعني حمامي الرومي وحمام سويد فنه كان يدخل إليها خمن داخل الحارة وبها فرنان ولها السوق الذي لا يحتاج ساكنها إلى غيره وكان هذا السوق من سوق خان الروّاسين إلى سوق الشماعين معمور الجانبين بالعدّة الوافرة من بياعي لحم الضأن السليخ وبياعي اللحم السميط وبياعي اللحم البقري وبه عدّة كثيرة من الزياتين وكثير من الجبانين والخبازين واللبانين والطباخين والشوّايين والبواردية والعطارين والخضريين وكثير من بياعي الأمتعة حتى أنه كان به حانوت لا يباع فيه إلاّ حوائج المائدة وهي: البقل والكرّات والشمار والنعناع وحانوت لا يباع فيه إلا الشيرج والقطن فقد برسم تعمير القناديل التي تُسرج في الليل. وسمعت من أدركت أنه كان يَشتري من هذا الحانوت في كل ليلة شيرج مما يوضع في القناديل بثلاثين درهمًا فضة عنها يومئذٍ دينار ونصف. وكان يوجد بهذا السوق لحم الضأن النيء والمطبوخ إلى ثلث الليل الأوّل ومن قبل طلوع الفجر بساعة وقد خرب أكثر حوانيت هذا السوق ولم يبق لها أثر وتعطل بأسره بعد سنة ست وثمانمائة وصار أوحش من وتد في قاع بعد أن كان الإنسان لا يستطيع أن يمرّ فيه من ازدحام الناس ليلًا ونهارًا إلاّ بمشقة وكان فيه قبانيّ برسم وزن الأمتعة والمال والبضائع لا يتفرّغ من الوزن ولا يزال مشغولًا به ومعه من يستحثه ليزن له. فلما كان بعد سنة عشر وثمانمائة أنشأ الأمير طوغان الدوادار بهذا السوق مدرسة وعمّر ربعًا وحوانيت فتحابي بعض الشيء وقبض على طوغان في سنة ست عشرة وثمانمائة ولم تكمل عمارة السوق وفيه الآن بقية يسيرة. سوق الشماعين هذا السوق من الجامع الأقمر إلى سوق الدجاجين كان يعرف في الدولة الفاطمية بسوق القماحين وعنده بنى المأمون بن البطائحي الجامع الأقمر باسم الخليفة الآمر بأحام الله وبنى تحت الجامع دكاكين ومخازن من جهة باب الفتوح وأدركت سوق الشماعين من الجانبي معمور الحوانيت بالشموع الموكبية والفانوسية والطوافات لا تزال حوانيته مفتحة إلى نصل الليل وكان يجلس به في الليل بغايا يقال لهنّ زعيرات الشماعين لهنّ سيمًا يُعرفن بها وزيّ يتميزن به وهو لبس الملاءات الطرح وفي أرجلهنّ سراويل من أديم أحمر وكنّ يعانين الزعارة ويقفن مع الرجال المشالقين في وقت لعبهم وفيهنّ من تحمل الحديد معها. وكان يُباع في هذا السوق في كل ليلة من الشمع بمال جزيل وقد خرب ولم يبق به إلاّ نحو الخمس حوانيت بعدما أدركتها تزيد على عشرين حانوتًا وذلك لقلة ترف الناس وتركهم استعمال الشمع وكان يعلق بهذا السوق الفوانيس في موسم الغطاس فتصير رؤيته في الليل من أنزه الأشياء وكان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يُشترى ويُكتى من الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منهنّ عشرة أرطال فما دونها ومن المزهرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة ومن الشمع الذي يحمل على العجل ويبلغ وزن الواحدة منها القنطار وما فوقه كل ذلك برسم ركوب الصبيان لصلاة التراويح فيمرّ في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية سوق الدجاجين: هذا السوق كان مما يلي سوق الشماعين إلى سوق قبو الخرشتف كان يبع فيه من الدجاج والأوز شيء كثير جليل إلى الغاية وفيه حانوت فيه العصافير التي يبتاعها ولدان الناس ليعتقوها فيباع منها في كل يوم عدد كثير جدًّا ويبع العصفور منها بفلس ويخد الصبيّ بأنه يسبح فمن أعتقه دخل الجنة وكل واحد حينئذٍ رغبة في فعل الخير وكان يوجد في كل وقت بهذه الحوانيت من الأقفاص التي بها هذه العصافير آلاف ويباع بهذا السوق عدّة أنواع من الطير وفي كل يوم جمعة يباع فيه بكرة أصناف القماري والهزارات والشحارير واللبغاء والسُّمّان وكنا نسمع أن من السُّمَان ما يبلغ ثمنه المئات من الدراهم وكذلك بقية طيور المسموع يبلغ الواحد منها نحو الألف لتنافس الناس فيها وتوفر عدد المعتنين بها وكان يقال لهم غواة طيور المسموع سيما الطواشية فإنه كان يبلغ بهم الترف أن يقتنوا السُّمَان ويتأنقوا في أقفاصه ويتغالوا في أثمانه حتى بلغنا أنه بيع طائر من السمان بألف درهم فضة عنها يومئذٍ نحون الخمسين دينارًا من الذهب كل ذلك لإعجابهم بصوته وكان صوته على وزن قول القائل: " طقطلق وعوع " وكلما كثر صياحه كانت المغالاة في ثمنه فاعتبر بما قصصته عليك حال الترف الذي كان فيه أهل مصر ولا تتخذ حكاية ذلك هزؤًا تسخر به فتكون ممن لا تنفعه المواعظ بل يمرّ بالآيات معرضًا غافلًا فتحرم الخير. وكان بهذا السوق قيسارية عملت مرّة سوقًا للكتبيين ولها باب من وسط سوق الدجاجين وباب من الشارع الذي يسلك فيهمن بين القصرين إلى الركن المخلق فاتفق أن ولي نيابة النظر في المارستان المنصوري عن الأمير الكبير ايتمش النحاسي الظاهريّ أمير يعرف بالأمير خضر ابن التنكزية فهدم هذا السوق والقيسارية وما يعلوها وأنشأ هذه الحوانيت والرباع التي فوقها تجاه ربع الكامل الذي يعلو ما بين درب الخضيري وقبو الخرشتف فلما كمل أسكن في الحوانيت عدّة من الزياتين وغيرهم وبقي من الدجاجين بهذا السوق بقية قليلة. سوق بين القصرين: هذا السوق أعظم أسواق الدنيا فيما بلغنا وكان في الدولة الفاطمية براحًا واسعًا يقف فيه عشرة آلاف ما بين فارس وراجل ثم لما زالت الدولة ابتذل وصار سوقًا يعجز الواصف عن حكاية ما كان فيه وقد تقدّم ذكره في الخطط من هذا الكتاب وفيه إلى الآن بقية تُحزنني رؤيتها إذ صارت إلى هذه القلة. سوق السلاح هذا السوق فيما بين المدرسة الظاهرية بيبرس وبين باب قصر بشتاك استجدّ فيما بعد الدولة الفاطمية في خط بين القصرين. وجعل لبيع القسيّ والنشاب والزرديات وغير ذلك من آلاف السلاح وكان تجاهه خان يقابل الخان الذي هو الآن بوسط سوق السلاح وعلى بابه من الجانبين حوانيت تجلس فيها الصيارف طول النهار فإذا كان عصريات كل يوم جلس أرباب المقاعد تجاه حوانيت الصيارف لبيع أنواع من المآكل ويقابلهم تجاه حوانيت سوق السلاح أرباب المقاعد أيضًا فإذا أقبل الليل أشعلت السرج من الجانبين وأخذ الناس في التمشي بينهما على سبيل الاسترواح والتنزه فيمرّ هنالك من الخلاعات والمجون ما لا يعبر عنه بوصف فلما أنشأ الملك الظاهر برقوق المدرسة الظاهرية المستجدّة صارت في موضع الخان وحوانيت الصرف تجاه سوق السلاح وقلّ ما كان هناك من المقاعد وبقي منها شيء يسير. سوق القفيصات بصيغة الجمع والتصغير هكذا يُعرف كأنه جمع قفيص فإنه كله معدّ لجلوس أناس على تخوت تجاه شبابيك القبة المنصورية وفوق تلك التخوت أقفاص صغار من حديد مشبك فيها الطرائف من الخواتيم والفصوص وأساور النسوان وخلاخيلهنّ وغير ذلك وهذه الأقفاص يأخذ أجرة الأرض التي هي عليها مباشر المارستان المنصوري وأصل هذه الأرض كانت من حقوق أرض موقوفة على جامع المقس فدخل بعضها في القبة المنصورية وصار بعضها كما ذكرنا وإلى اليوم يدفع من وقف المارستان حكر هذه الأرض لجامع المقس ولما ولي نظر المارستان الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك في سنة ست وعشرين وسبعمائة عمل فيه أشياء من ماله منها خيمة ذرعها مائة ذراع نشرها من أوّل جدار القبة المنصورية بحذاء المدرسة الناصرية إلى آخر حدّ المدرسة المنصورية بجوار الصاغة فصارت فوق مقاعد الأقفاص تظلهم من حرّ الشمس وعمل لها حبالًا تمدّ بها عند الحرّ وتجمع بها إذا امتدّ الظل وجعلها مرتفعة في الجوّ حتى ينحرف الهواء ثم لما كان شهر حمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة نُقلت الأقفاص منه إلى القيسارية التي استجدّت تجاه الصاغة. سوق باب الزهومة هذا السوق عرف بذلك من أجل أنه كان هناك في الأيام الفاطمية باب من أبواب القصر يقال له باب الزهومة تقدّم ذكره في ذكر أبواب القصر من هذا الكتاب. وكان موضع هذا السوق في الدولة الفاطمية سوق الصيارف ويقابله سوق السيوفيين من حيث الخشيبة إلى نحو رأس سوق الحريريين اليوم وسوق العنبر الذي كان إذ ذاك سجنًا يُعرف بالمعونة ويقابل السيوفيين إذ ذاك سوق الزجاجين وينتهي إلى سوق القشاشين الذي يعرف اليوم بالخرّاطين فلما زالت الدولة الفاطمية تغير ذلك كله فصار سوق السيوفيين من جوار الصاغة إلى درب السلسلة وبني فيما بين المدرسة الصالحية وبين الصاغة سوق فيه حوانيت مما يلي المدرسة الصالحية يباع فيها الأمشاط بسوق الأمشاطيين وفيه حوانيت فيما بين الحوانيت التي يباع فيها الأمشاط وبين الصاغة بعضها سكن الصيارف وبعضها سكن النقليين وهم الذين يبيعون الفستق واللوز والزبيب ونحوه وفي وسط هذا البناء سوق الكتبيين يحيط به سوق الأمشاطيين وسوق النقليين وجميع ذلك جارٍ في أوقاف المارستان المنصوري. وكان سوق باب الزهومة من أجلّ أسواق القاهرة أفخرها موصوفًا بحسن المآكل وطيبها واتفق في هذا السوق أمر يستحسن ذكره لغرابته في زمننا وهو أنه عبر متولي الحسبة بالقاهرة في يوم السبت سادس عشر شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة على رجل بوارديّ بهذا السوق يُقال له محمد بن خلف عنده مخزن فيه حمام وزرازيرٍ متغيرة متغيرة الرائحة لها نحو خمسين يومًا فكشف عنها فبلغت عدّتها وثلاثين ألفًا ومائة وستة وتسعين طائرًا من ذلك حمام ألف ومائة وستة وتسعون وزرازير ثلاث وثلاثون ألفًا كلها متغيرة اللون والريح فأدبه وشهره وفيه إلى الآن بقايا. سوق المهامزيين هذا السوق مما استجدّ بعد زوال الدولة الفاطمية وكان بأولها حبس المعونة الذي عمله الملك المنصور قلاوون سوق العنبر يقابله المارستان والوكالة ودار الضرب في الموضع الذي يُعرف اليوم بدرب الشمسيّ وما بحذائه من الحوانيت إلى حمّام الخرّاطين وما تجاه ذلك. وهذا السوق معدّ لبيع المهاميز وأدركت الناس وهم ذلك إلا من يتورع ويتدين فيتخذ القالب من الحديد ويطليه بالذهب أو الفضة ويتخذ السقط من الفضة وقد اضطرّ الناس إلى ترك هذا فقلّ من بقي سقط مهمازه فضة ولا يكاد يوجد اليوم مهماز من ذهب وكان يباع بهذا السوق البدلات الفضة التي كانت برسم لجم الخيل وتعمل تارة من الفضة المجراة بالمينا وتارة بالفضة المطلية بالذهب فيبلغ زنة ما في البدلة من خمسمائة درهم فضة إلى ما دونها وقد بطل ذلك. وكان يباع به أيضًا سلاسل الفضة ومخاطم الفضة المطلية تُجعل تحت لجم الحجور من الخيل خاصة فيركب بها أعيان الموقعين وأكابر الكتاب من القبط ورؤساء التجار وقد بطل ذلك أيضًا. ويباع فيه أيضًا الدوي والطرف التي فيها الفضة والذهب كسكاكين الأقلام ونحوها وكانت تجار هذا السوق تعدّ من بياض العامّة ويتصل بسوق المهامزيين هذا. سوق اللجامين يباع فيه آلات اللجم ونحوها مما يتخذ من الجلد وفي هذا السوق أيضًا عدّة وافرة ن الطلائين وصناع الكفت برسم اللجم والركب والمهاميز ونحو ذلك. وعدّة من صناع مياتر السروج وقرابسها وأدركت السروج تُعمل ملوّنة ما بين أصفر وأزرق ومنها ما يُعمل من الدبل ومنها ما يُعمل سيورًا من الجلد البلغاري الأسود ويركب بهذه السروج السوق القضاة ومشايخ العلم اقتداءً بعادة بني العباس في استعمال السواد على ما جدّده بديار مصر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بعد زوال الدولة الفاطمية. وأدركت السروج التي تركب بها الأجناد والكتاب يُعمل للسرج في قربوسه ستة أطواق من فضة مقبلة مطلية بالذهب ومعقربات من فضة ولايكاد أحد يركب فرسًا بسرج سادج إلا إن يكون من القضاة ومشايخ العلم وأهل الورع فلما تسلطن الملك الظاهر برقوق اتخذ سائر الأجناد السروج المغرقة وهي التي جميع قرابسها من ذهب أو فضة إما مطلية أو ساجة وكثر عمل ذلك حتى لم يبق من العسكر فارس إلا وسرجه كما ذكرنا. وبَطُل السرج المسقط فلما كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة غلب على الناس الفقر وكثرت الفتن فقلّت سروج سوق الجوخيين هذا السوق يلي سوق اللجميين وهو معدّ لبيع الجوخ المجلوب من بلاد الفرنج لعمل المقاعد والستائر وثياب السروج وغواشيها وأدركت الناس وقلما تجد فيهممن يلبس الجوخ وإنما يكون من جملة ثياب الأكابر جوخ لا يلبس إلا في يوم المطر وإنما يلبس الجوخ من يرد من بلاد المغرب والفرنج وأهل الإسكندرية وبعض عوام مصر فأما الرؤساء والأكابر والأعيان فلا يكاد يوجد فيهم من يلبسه إلاّ في وقت المطر فإذا ارتفع المطر نزع الجوخ. وأخبرني القاضي الرئيس تاج الدين أبو الفداء سماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب بن الخطبا المخزومي خال أبي رحمه الله قال: كنت أنوب في حسبة القاهرة عن القاضي ضياء الدين المحتسب فدخلت عليه يومًا وأنا لابس جوخة لها وجه صوف مربع فقال لي: وكيف ترضى أن تلبس الجوخ وهل الجوخ إلاّ لأجل البغلة! ثم أقسم عليّ أن أخلعها ومازال بي حتى عرّفته أني اشتريتها من بعض تجار قيسارية الفاضل فاستدعاه في الحال ودفعها إليه وأمره بإحضار ثمنها. ثم قال لي: لاتعد إلى لبس الجوخ استهجانًا له. فلما كانت هذه الحوادث وغلت الملابس دعت الضرورة أهل مصر إلى ترك أشياء مما كانوا فيه من الترفه وصار معظم الناس يلبسون الجوخ فتجد الأمير والوزير والقاضي ومن دونهم ممن ذكرنا لباسهم الجوخ ولقد كان الملك الناصر فرج ينزل أحيانًا إلى الإصطبل وعليه قجون من جوخ وهو ثوب قصير الكمين والبدن يخاط من الجوخ بغير بطانة من تحته ولا غشاء من فوقه فتداول الناس لبسه واجتلب الفرنج منه شيئًا كثيرًا لا توصف كثرته ومحمل بيعه بهذا السوق ويلي سوق الجوخيين هذا.
|